العين من النظرة إلى الدمعة في الشعر العربي
العين عضو عجيب، ومركز لأهمّ حاسّة من حواسّ الإنسان الخمس؛ بها تدرك المرئيّات بأحجامها وأشكالها وألوانها.
والعين هي الباصرة، وتطلق على الحدقة، أو على مجموع الجفن، كما تطلق أيضاً على حاسّة البصر، نقول: "هو قويّ العين" أي حاسّة بصره قويّة،
وتسمّى العين أو ما دار بها محجر بفتح الميم أو كسرها، وقد تطلق عليها كلمة مقلة، وهي شحمة العين أو السواد والبياض منها، فتتكون للعين ذاتها. وإنسان العين ما يُرى في سوادها أو سوادِها نفسه، واللَّحْظ باطن العين، أو النظر بمؤخرّتها،
ويتبع المحجرَ الجفن، وهو غطاء من أعلى إلى أسفل، ويُسمّى رَمْشاً، أمّا الرَّمش فهو تَفتّل في أصول شعر الجفن، وهو غير مُستحبّ
والهُدْب أو الهُدُب فهو شعر أشفار العين، ويكون جماله في وَطفه: أي طول أشفاره وتمامها،
والحاجب: العظم فوق العين بلحمه وشعره، وقد ذمّ فيه كثافة الشعر واتصال الحاجبين، وهناك معانٍ كثيرةٌ على المجاز وليس على أصل الوضع، ولا حاجة لتتبعها هنا.
العين فيها أو منها أو ممّا يتبعها آياتٌ من السحر والجمال تصوغها أجزاؤها أو ألوانها أو صفاؤها وبريقها أو سعتها أو نظراتها أو دموعها أو بسمتها.
إنّها أكثر الأعضاء تأثراً وتأثيراً، فهي تتأثّر بما تقرؤه في الآخرين، وتؤثّر فيهم حين تقرؤها عيونهم، تتأثر فتخلف في ذات صاحبها الحزن أو السرور، وتؤثر، فتهيج ما كان دفيناً في الآخرين، بل لها قدرةٌ قويّة على اختراقهم لتصل إلى مكنونات نفوسهم؛ إضافة إلى أنّها هي نفسُها تكشف عمّا في نفس صاحبها من المعاني والدّلالات الكثيرة،
إنّها تملِك قدرة عجيبة على التعبير عن المشاعر والمعاني المتضادّة: الحبِّ والبغض، الحنان والقسوة، الألفة والجفوة، الحزن والفرح، الغضب والرضا، القبول والرفض، السعادة والتعاسة، الحسد والقناعة، الصدق والرياء. إنها تبتسم: "عيناك حين تبسمان... تورق الكروم"([1]) وتضحكان:
تضحك عيناك وإن جدّتا
لا سحر في عينين لا تضحكان([2])
وهي تحزن، فتستنزفها الدمعة حتى الدنف والعمى، قال تعالى: (وتولّى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم)([3]).
وهي قادرة على بعث الأمل والحياة، وقادرة على بَذر الموت والردى، وهي المخلوق الضعيف، وقد خصّوها بلغة هي لغة العيون، إنّها لغة ليست ككلّ اللّغات، لغة يقرأ بريق سطورها العشّاق والمحبّون وأصحاب القلوب المتيّمة، ومن أوتي حظاً من رهافة الحسّ، فتميت أو تحيي، لكنّ لغتها أحياناً تكون فاضحة إذا ما وقعت عليها عيون الكاشحين، حتّى عيون هؤلاء لها لغتها المؤذية، فتصيب الإنسان بالعين، فإذا أمِنَ شرّها بات قرير العين، فكنّوا بقرّة العين عن الفرح والحبور، قال تعالى: (هل أدلّكم على من يكفله فرَجَعْناك إلى أمِّكَ كي تَقَرَّ عينها)([4]). أي تفرح وتسرّ بلقائك،
وقد يكنّى بها عن الرياء، فيقال: "هو عبد عين أو صديق عين". يخدمك أو يصادقك رياء، أنشد الجاحظ([5]):
ومولى كعبد العين أمّا لقاؤه
فيُرضى، وأمّا غيبه فظنون
وقد يكنّى بها عن التجسّس، فيقال: "فلان عين على فلان". أي ناظر عليه.
والعين من أكثر الأعضاء تعرّضاً للهجوم، فيدعى عليها بالقلع والعمى والفقء، وقد يكون الفقء معنويّاً، فيقال: "فقأ عينه، أي صكّه وأغلظ له، ويكنّى بها عن الغالي المحبّب إلى النفس، فيقال: "أنت عيني"، كما يكنّى بها عن الطاعة والموافقة، فيقال: "على عيني" وهي موطن الرعاية والصون، قال تعالى: ( وَلِتُصْنعَ على عيني)([6]).
أي لتربّى بمراقبتي أو بمرأى منّي وحفظي.
وعند امرئ القيس في فرسه: "وبات بعيني قائماً غير مرسل". وهي موطن الرؤية اليقينيّة، قال تعالى: (ثُمَّ لترونَّها عين اليقين)
([7]). أي مشاهدة العين، كما هي موطن التبصّر والهداية، قال تعالى: (ألم نجعل له عينين)([8]). أي عينان يتبصّر بهما طريقي الخير والشرّ، وقد تكون سبيلاً إلى المحرّمات، فتختَلس النظر إليها، قال تعالى: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم)
([9]).
كما يكنّى بها عن السخرية: "العين تطرقك ما أفهمك".
نلاحظ من هذا التقديم كثرةَ الدلالات المجازيّة في استخدام العين، فماذا يعني المجاز، وماذا تعني كثرة الدلالات؟
إنّ كثرة الدلالات تكشف عن اهتمام واضح بالعين، وعن مكانة رفيعة لها عند الناس، وعن إعجاب كبير بها، فإذا كان هذا شأنها بعامة، فما هو شأنها عند الشعراء؟
وهم الأقدر على استجلائها وكشفها ورصد معانيها، وما تبوح به، وما يأتلق فيها من سحر، أوجعهم، أو أسعدهم: أوجعهم فأحرق مهجهم، فإذا هم صرعى فتنته، أسعدهم ففرش الأمل في درب حياتهم ، فإذا هم ينعمون بالسعادة تغمر قلوبهم. لذلك وصفوا جمال العين، وسحر نظرتها، وفتور طرفها، وما تهمي به من دموع تفعل فعلها في النفس، فتكوي القلوب، أو تذيبها لهفة وشوقاً، وسأقف على ذلك مُصعّداً مع المعنى والصورة.
([1]) - أنشودة المطر لبدر شاكر السياب.
([2]) - بدوي الجبل ـ الديوان.
([3]) - سورة يوسف ـ الآية (84).
([4]) - سورة طه ـ الآية (40).
([5]) - أساس البلاغة ـ الزمخشري.
([6]) - سورة طه ـ الآية (39).
([7]) - سورة العاديات ـ الآية (7).
([8]) - سورة البلد ـ الآية (
.
([9]) - سورة الأنبياء ـ الآية (13)
يتبع