بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على أشرف الخلق محمد بن عبد الله، النبي الخاتم، و علـى آلـه، وصحبه أجمعين ، و التابعين لهم بخير و إحسـان إلى يوم الدين،
أمـا بـعد .
إن الغرض الحقيقي من هذا البحث ، يتعدى بيان الروح والنفس، و إن كنت لا أقلل من شأن هذا ، إلا أن الغرض الحقيقي هو بيان الإعتقاد، و كيفية تدبر كتاب الله ، وكيف أن كتاب الله يفسر بعضه بعضا .
يقول تعالى :
(( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً )) الكهف الآية (54) إلي الآية (55)
والآن نعود إلى موضوع البحث، الروح و النفس من كتاب الله، وبالطبع إن أول ما سيتبدر إلى الأذهان هو قوله تعالى :
(( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) الإسراء الآية (85)
ولكن بالرغم من بيان الآية إلا أنها يستدل بها في غير موضعها، و لسوف أبين ذلك بإذن الله فيما بعد.
والحقيقة أن هنالك خلط واضح بين الروح و النفس، عند علماء المسـلمين، في مكنونهما، و صفاتهما، و إن كانت النفس أفضل حالا، فلقد وردت في كتاب الله فيما يقارب الـ 140 آية، مما حد من الإجتهاد فيها، و أما الروح، فلم ترد إلا في 23 آية فقط ، ممـا فتح بـاب الإجتهـاد فيها ، و إن كـان الله قد فـصلهما تـفصيلا في كـتابه يقول تعالى :
(( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )) فصلت الآية (3)
فـهذا لا يمنع من أنه لم يقترب أحد بشكل واضح من فهمهما، و حـل هذا النزاع الممـتد، و الذي وصل في بعض الأحيان لحد التكفير بين الفرق المتصارعة .
النفس من كتاب الله
1- 1 بيان الخلط في النفس و الروح
1- 1- 1 بيان الخلط في ما للنفس و ما للروح عند مفسرين القرآن
لم تحظى النفس بقدر التعظيم، و التشريف، الذي حظـت به الروح في كتاب الله، و الإعتقاد بأن الروح، و النفس، مسمى واحد (1) يخالف المنهج القرآني، فالله لم ينسبها لذاته نسب الإستئثار في الأمر، كما نسب الروح لذاته، بالرغم من تعدد ذكرالنفس في القرآن، مقارنة بالروح، و إنها عندما اقترنت بالله أريد بها الدلالـة، فالنفس بيت الإمتحان ، فهي التي تصنع الخير، و تصنع السوء، يقول تعالى :
(( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )) آل عمران الآية (30)
و الدلالة هي دلالة معرفة، فهو خـالقها وهو أعلم بها منا، يقول تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق الآية (16) و إنه قدم عمـل الخـير على السوء ، لأن الخير هو مراده فيها و السوء هو مراد النفس ، و لا يجوز نسب النفس لله نسب الإستـئثار في الأمـر؛ و إلا نسبنا لله الســوء في أهوائـنا ، و أفعالنا، و إن كان كل من عند الله ، يقول تعالى : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) النساء الآية (78) و (79) .
و ليس المقصود بنفسه في" وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " ذات الله (2) كما جنـح بعض المفسـرين لهذا، لأن النفس تستلـزم الموت يقول تعالى " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " الأنبياء الآية (35) و لا يسـاوى الخالق بالمخلوق ، و أن الإستدلال بقوله تعالى على لسان المسيح : " تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ " المائدة الآية (116) مردود عليه بأن
لازم المعنى هو، تعلم ما في نفسي كما أعلمها بل سبحانك أعلم بها مني فأنت خالقها، فالمسيح يرد معرفته، و نفسه، إلى معرفة الله، و يرد عن نفسه تهمة إدعاء الألوهية، و يستعيذ أن يكون قـال هذا غافلا، و هذا من باب التأدب في الحديث مع الله، فالمسيح لم يقل لله لا صراحة، كما إنه نسب نفسه لله و لسان حاله يقول هي نفسك المخلصة، و التي تتبع مرادك فيها يا الله، كما أن الله لم يقل وأحذركم نفسي بل دائما ما ينسبها للمجهول، فكيف بنا نحن ننسبها لله صراحة، و الأولى بها إن قصد ذات الله أن يقال و أحذركم نفسنا، وهذا لم يكن أبدا في كتاب الله .
والحال هو الحال أيضا في قوله تعالى :
(( كَتبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) الأنعام الآية (12)
فالله كتب على نفسه التي خلق الرحمة، وهي مقترنة بنا إلى يوم القيامة، و من يتلمس الرحمة من كتاب الله يجد أن الله قد صرفها في آياته، و في حديث عبدان عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي قال : (( لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه و هو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش : إن رحمتي غلبت غضبي )) و في رواية (( رحمتي سبقت غضبي )) (1) متفق عليه و في الحديث سبق الخلق الكتابة، و المقصود بالخلق خاصة هو آدم عليه السـلام - نفسه- و من ثم كتب الله الرحمة، و إن كان الله قد كتب على ذاته الرحمة فهي ملزمه له عند يوم الحساب، يقول تعالى : " فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً " فاطر الآية (43) و على هذا تصبح فكرة الجزاء لا معنى لها، بل إن رحمته تستلزم عدم المساواة بين من آمن و عمل صالحـا ، و من استكبر و سعى في الأرض فسادا، كما إن الله اهلك قوم عاد و ثمود و آل فرعون و من قبلهم قوم نوح بما كفروا و من بعد أن جاءهم رسلهم بالبينات ، ولولا إننا آمنا ، و صدقنا، لحل بنا ماحل بهـم ، و استبدل الله بنا قوما آخرين يعبدونه، و يقدسونه حق مكانته .
( وما حل بالأولين إلا رحمة للتابعين )
(( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )) طه الآية (41)
ورد فيها من تفسير ابن كثير :
(( "وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي" أي: اصطفيتك و اجتبيتك رسولا لنفسي، أي كما أريد وأشاء .
وقال البخاري عند تفسيرها : حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال : (( التقي آدم وموسى، فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس و اخرجتهم من الجنة ؟ فقال آدم : و أنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه، و انزل عليك التوراة ؟ قال : نعم . قال : فوجدته قد كتب علي قبل أن يخلقني ؟ قال : نعم فحج آدم موسى )) (1) أخرجاه الشيخان ))
و لكن قبل أن أبين لماذا نسب الله النفس لذاته؛ يجب أن أجيب عن سؤال هام، و هو ما حاجة الله لرسله ؟ بالطبع لا حاجة لله لأي من خلقه، بل نحن من نسأل رحمته، وعلى ضوء هذه الإجابة نتتبع الآيات من سورة طه، و في الآيات يخبر الله موسى عن حال مولده، و كيف نجاه من موت محقق، وكيف نصره وهو طفل رضيع لا يملك لنفسه نفعا، و لا ضرا، و نستشعر أنه كبر في نفس موسى أن لا يقدر علي حمل رسالة الله وحده، ولذلك طلب من الله أن يجعل له من أهله عونا، فأعطاه الله هارون سندا، و عونا، و كان أمر الله لموسى أن يذهب إلى فرعون إنه طغى، و موسى تربى في بيت فرعون، و هو على علم بحاله، و كفره، فكيف لموسى أن يجبره على قبول دعوة الله، وهنا يخفف الله عن موسى و يقول له :
( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) طه من الآية (41) إلى الآية (44) ومن الآيات فالله يهون على موسى، و يخبره، إنه ما اصطنعه لفرعون بل لعباده الصالحين، ويأمره و أخوه أن لا ينأيا عن ذكرالله للناس - صالحهم و طالحهم - و أن يذهبا إلى فرعون، و أن يحسنا له في القول لعله يتذكر، و ينجو بنفسه وهنا فقط ينسب الله النفس له نسب الإستئثار في الأمر، فالهداية من الله وحده يقول تعالى :
القصص من الآية (56)
(( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ))
1- 1- 2 بيان الخلط بين النفس والروح عند رواة الحديث
و يتمثل هذا الخلط بشكل واضح في الأحاديث التي تخبرنا عن حال الوفاة، و سؤال القبر، فنجد من يجمع في روايته بين الروح و النفس، أو من تقتصر روايته كلها على إحداهما فقط، أو من لم ياتي على ذكرهما، و الأغرب أن المستدلين بالأحاديث استصاغوا هذا و لم يجدوا فيه مضض، فنجد في كتاب الروح لابن القيم الجوزية (1) تحت اسم المسألة السادسة ( و هي أن الروح - النفس - هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا ؟ ) إنه جمع في إستدلاله على ثلاثة أشكال للرواية، و ربمـا كـان مراده هو إثبات أن الروح والنفـس مسمى واحد كما أشير مسبقـا .
نص الكلمات التي استفتح بها ابن القيم الجوزية هذه المسألة :
(( فقد كفانا رسول الله أمر هذه المسالة، وأغنانا عن أقوال الناس حيث صرح بإعادة الروح - النفس - إليه، فقال البراء بن عازب : كنا في جنازة في بقيع الفرقد فأتانا النبي فقعد و قعدنا حوله كأن على رؤوسنا الطير و هو يلحد له فقال (( أعوذ بالله من عذاب القبر - ثلاث مرات - ثم قال : إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة و إنقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس؛ فيجلسون منه مد البصر، ثم يجئ، ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان : قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها، فإذا اخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن و ذلك الحنوط، و يخرج منها كأطيب نفخة مسك وجدت على وجه الأرض قال : فيصعدون بها فلا يمرون بها - يعني على ملأ من الملائكة - إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب فيقولون : فلان ابن فلان بأحسن اسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستحسنون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى فيقول الله عز و جل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين، و اعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم و فيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة آخرى، قال : فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول ربي الله، فيقولان له و ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هو رسول الله، فيقولان له : و ما علمك بهذا ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت . فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، و افتحوا له بابا من الجنة، قال: فيأتيه من ريحها، و طيبها، و يفسح له في قبره مد بصره، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول : أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالخير، فيقول : أنا عملك الصالح، فيقول : رب أقم الساعة
حتى أرجع إلى أهلي و مالي . قال : و إن العبد الكافر إذا كان في إنقطاع من الدنيـا و إقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله و غضب قال : فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا بما هذا الريح الخبيث ؟ فيقولون : فلان ابن فلان بأقبح اسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول الله ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) الأعراف الآية (40) فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) الحج الآية (31) فتعاد روحه في جسده، و يأتيه ملكان فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، و افتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه،و يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول : أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالشر، فيقول أنا عملك الخبيث . فيقول : رب لا تقم الساعة )) (1) رواه الإمام أحمد و أبو داود، وروى النسائي و ابن ماجة أوله، ورواه أبو عوانة الأسفرائيني في صحيحه )) .
ثم مال بعد ذلك الإمام ابن القيم على رأي الإمام ابن حزم من كتاب الملل و النحل، و كيف أنه ينفي إحياء الميت في قبره، و إنه لم يأتي قط عن رسول الله خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم في المساءلة، ثم شرع بعد ذلك في الرد على ما كان من ابن حزم حتى وصل إلى الشكل الثاني من الرواية، و فيه ذكر الروح فقط . وقال :
(( ثم ساقه ابن منده من طريق محمد بن سلمة، عن خصيف الجزري، عن مجاهد، عن البراء بن عازب قال : (( كنا في جنازة رجل من الأنصار و معنا رسول الله ، فانتهينا إلى القبر و لم يلحد، و وضعت الجنازة، و جلس رسول الله ، فقال : إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة و أطيبه ريحا، فجلس عنده لقبض روحه ، و أتاه ملكان بحنوط من الجنة و كفن من الجنة، و كانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه ، رشحا فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان
فأخذاها منه، فحنطاها بحنوط من الجنة، و كفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، و تستبشر الملائكة بها، و يقولون : لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء، و يسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال : هذه روح فلان فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء حتى توضع بين يدي الله عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول الله عز وجل للمقربين : اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل . و يختم كتابه، فيرد في عليين، فيقول الله عز وجل : ردوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول الله ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) طه الآية (55)
فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له : انظر إلى ما أعد الله لك من الثواب، و يفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له : انظر ما صرف الله عنك من العذاب، ثم يقال له : نم قرير العين، فليس شئ أحب إليه من قيام الساعة . و قال رسول الله (( إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض : إن كنت لحبيبا إلي و أنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره )) و قال رسول الله : (( إذا وضع الكافر في قبره أتاه منكر و نكير فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول لا أدري، فيقولان له : لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له : ما قولك في هذا الرجل ؟ فيقول : أي رجل ؟ فيقولان : محمد . فيقول : قال الناس إنه رسول الله ، فيضربانه ضربا فيصير رمادا )) . هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ، و لا نعلم أحدا من أئمة الحديث طعن فيه بل رووه في كتبهم، و تلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا في أصول الدين من عذاب القبر و نعيمه )) (1)
ثم استطرد في حديثه حتى وصل إلي الشكل الثالث من الرواية، وفيه ذكر النفس فقط وقال :
(( و لو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك، مثل حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال : (( إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالح، قال : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة، و أبشري بروح و ريحان و رب غير غضبان قال : فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون فلان فيقولون : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، و أبشري بروح و ريحان و رب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل . وإذا كان الرجل السوء قال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة و أبشري بحميم و غساق و آخر من شكله أزواج فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم
.
يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون : فلان، فيقولون : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء و الأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع و لا معوق، ثم يقال : فما كانت تقول في الإسلام ما هذا الرجل ؟ فيقول محمد جاءنا بالبينات من قبل الله فآمنا و صدقنا )) (1) و ذكر تمام الحديث. قال الحافظ ابو نعيم هذا حديث متفق على عدالة ناقليه اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج ))
كما كان هذا أيضا في تفسير ابن كثير، حيث اورد الروايات الثلاث للحديث في أكثر من آية استغرقته كتابة، و هي قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم الآية (27)
أما الشكل الرابع للرواية فنجده عند ابن حبان في صحيحه، وهو عند ابن ماجة بنحوه و بإسناد صحيح .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : (( إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي إلى روح الله فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا فيشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من الأرض ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا فيقول قد مات أما أتاكم فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض )) (2)
ولقد تفرد هذا الحديث عن سابقيه بقول : " حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب " و بالقياس يمكننا القول أن الحديث قد خلا تماما من الروح و النفس .
1 - 2 بيان ما ورد في النفس من كتاب الله
1- 2 -1 ورد في النفس أنها أصل الحياة
يقول تعالى :
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) النساء الآية (1)
و قوله أيضا :
(( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )) الأنعام الآية (98)
وقوله أيضا
(( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) الروم الآية (21)
و مما لا خلاف عليه أن المقصود بالنفس في الآيات السابقة هو آدم عليه السلام، أبو البشرية و أن الله خلق منها زوجها، أي أمنا حواء و إننا جبلنا منهما، و أن قوله تعالى : " وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا " إنما ردنا الله إلى أصل الخليقة أبونا آدم .
1- 2- 2 كما قسم العلماء النفس إلى ثلاث انواع :
( النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، و النفس الأمارة بالسوء )
يقول الإمام ابن القيم الجـوزية في هذا :
(( فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس نفس مطمئنة ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه هذه و منهم من تغلب عليه الآخرى، و يحتجون على ذلك بقوله تعالى :
( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) الفجر الآية (27)
ويقول تعالى :
( لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ِ (1) وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) القيامة الآية (2)
ويقول تعالى :
( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يوسف الآية (53)
و التحقيق أنها نفس واحدة و لكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم ... )) (1)
1- 2- 3 كما ورد في النفس أنها هي التي تسكن الجسد وهي التي تفارقه عند الممات
و استدلوا على هذا لقوله عز وجل :
(( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )) الأنبياء الآية (35)
و ورد فيها من تفسير الطبري :
(( وقوله : " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " يقول تعالى ذكره : كل نفس منفوسة من خلقه، معالجة غصص الموت ومتجرعة كأسها )) .
و يقول تعالى :
(( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ )) التكوير الآية (7)
و ورد فيها من تفسير الجلالين :
(( " وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ " قرنت بأجسادها )) .
كما ورد فيها من تفسير القرطبي :
(( قال النعمان بن بشير : قال النبي " وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ " قال : (( يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله )) وقال عمر بن الخطاب : يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح، وقال ابن العباس : ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة ، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج ، وأصحاب الشمال زوج .
(1) من كتاب الروح لابن القيم تحت اسم المسألة الحادية و العشرون وهي هل النفس واحدة أم ثلاثة ؟ .
وعنه أيضا قال : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر بالشياطين، وكذلك المنافقون وعنه أيضا : قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة و أهل النار، فيضم المبرز فى الطاعة إلى مثله والمتوسط إلى مثله ، و أهل المعصية إلى مثله ، فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله ، والمعنى : و إذا النفوس قرنت إلى أشكالها فى الجنة والنار . وقيل : يضم كل رجل الى من كان يلزمه من ملك و سلطان، كما قال تعالى : "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ " الصافات الآية (22) .
وقال عبد الرحمن بن زيد : جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، واصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج، وقد قال جل ثناؤه :" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ " الصافات الآية (22) أي أشكالهم . وقال عكرمة :" وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ " قرنت الأرواح - الأنفس - بالأجساد، أي ردت إليها . وقال الحسن : ألحق كل امرئ بشيعته : اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين . وقيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين وقيل : قرنت النفوس باعمالها، فصارت لإختصاصها به كالتزويج )) .
و ذلك مصداقا لقوله تعالى : ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) ق الآية (21) الي الآية (23) والمقصود هو تزويج النفس بالقرين ليلقيا حسابهما معا .
( و هذا لا ينفي تزويج النفس بالجسد فمن إعجاز اللفظ القرآني أنه يؤخذ على أكثر من معنى و لا ينفي إحداهما الآخر بل يكمل و يتمم )
1- 2- 4 كما ورد في النفس أنها في اليوم الآخر ستقسم إلى شقية و سعيدة
يقول تعالى :
(( يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ )) هود الآية (105)
ورد فيها من تفسير الجلالين :
(( " يَوْمَ يَأْتِ " ذلك اليوم" لاَ تَكَلَّمُ " فيه حذف إحدى التاءين " نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " تعالى " فَمِنْهُمْ " أَيْ الْخَلْق " شَقِيٌّ "و منهم "سَعِيدٌ" كتب كل في الأزل ))
كما ورد فيها من تفسير القرطبي :
(( أي من الأنفس، أو من الناس، وقد ذكرهم فى قوله : " يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ " هود الآية (103) والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة . والسعيد الذي كتبت عليه السعادة، قال لبيد : فمنهم سعيد أخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال : لما نزلت هذه الآية " فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ " سألت رسول الله ، فقلت : يانبي الله فعلام نعمل ؟ علي شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : ( بل علي شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ) . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر )) .
الروح من كتاب الله
2- 1 بيان ما قيل في الروح عند علماء المسلمين
1 -1 -2القول الأول و السائد :
أما الروح و هي بيت القصيد، فكان هنالك دائما إختلاف بشأنها، فأما القول السائد فيها وهو رأي أغلب جمهورالعلماء :
أن الروح هي أصل الحياة، وهي بداية الخلق، و استدلوا علي هذا من الروح التي نفخت في آدم، وعيسى عليهما السلام، كما أنه يوجد زخر كبير من الأحاديث التي تؤكد ذلك، (1) و أن الروح عندما وردت بمعنى الرسالة إنما قصد بها حياة القلوب، و التي ارتبطت بها أيضا الحياة الأبدية، فلا تستقيم الحياة بدون الإيمان بالله، وكان أبلغ ما قيل فيها قول السهيلي : الذي أقر أنها ذات لطيفة كالهواء، و سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، و أقر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس؛ بشرط إتصالها بالبدن، و إكتسابها بسببه صفات مدح، أو ذم، و قال إن الماء هو حياة الشجرة، ثم يكسب بسبب إختلاطه معها اسما خاصا، فإذا اتصل بالعنبة، و عصر منها، صار إما مصطادا، أو خمرا، و لا يقال له ماء إلا على سبيل المجاز، و هكذا لا يقال للنفس روحا إلا على هذا النحو، ولا يقال للـروح نفسـا إلا بإعتبار ما تـؤول إليه في الأصل .
وإستثنوا من هذا الروح الأمين، و روح القدس، و أكدوا على أنها لجبريل عليه السلام و أكدوا على أن الـروح سر من أسرار الله وحده، خـص علمهـا لذاتـه فقط .
2- 1- 2 الرأي الآخر :
فيؤكد على أن الروح هى الرسـالة، كما يؤكد على إختلاف لغة الحديث، مع لغة القرآن، فلم يورد الله آية واحـدة تخبرنا ببعث الروح، أو وفاتها، بل إن الحـديث هناك دائما عن النفس .
و استدلوا على هذا من قوله تعالى :
(( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) الشورى الآية (52)
وقوله تعالى :
(( يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّّّّ أَنَا فَاتَّقُونِ )) النحل الآية (2)
ولكنهم لم يبينوا الروح التى نفخت في كل من آدم، وعيسى عليهما السلام، وأكدوا أن الروح سر من اسرار الله عز وجل أيضا .
( ونخلص من هذا إلى أن بيان الروح يتوقف على ما نفخ فى آدم، وعيسى عليهما السلام، هل نفخ فيهما روح الحياة ؟ أم روح الرسالة ؟ )
2- 1- 3 إلباس الروح بعض الصفات
فقيل في الروح أنها جسم، و أنها على صور الخلق أيد، و أرجل، و أعين، وقيل عرض، وقيل ما ندري ما الروح أجوهر أم عرض، وقيل ليست الروح شيئا أكثر من إعتدال الطبائع الأربع، وقيل هي الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وقيل هي الحرارة الغريزية، وهي الحياة، وقيل هي جوهر بسيط منبعث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدبير، وهي على ما وصفت به من الإنبساط في العالم، غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير .
كما قيل فيها أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوعة مدبرة و أن هذا معلوم بالضرورة من الدين، و أن العالم محدث، وأن هذا ما مضى عليه الصحابة والتابعين، و منهم من زعم أنها قديمة واحتج على أنها من أمر الله وأمره غير مخلوق وبأن الله أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، و أنها روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت كما احجم آخرون عن القول فيها .
2- 2 بيان الروح التي نفخت في الرسل من كتاب الله
2- 2- 1 روح آدم عليه السلام
يقول تعالى :
(( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ )) الحجر الآية (29) إلي الآية (31)
فهل تقع التسوية على الجسد فقط ؟ يقول الله عز وجل :
(( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )) الشمس الآية (7) و (
ورد فيها من تفسير القرطبي :
(( قيل : المعنى و تسويتها، " فَمَا " : بمعنى المصدر . و قيل : المعنى و من سواها، و هو الله عز و جل . و في النفس قولان : أحدهما آدم . و الثاني : كل نفس منفوسة . و سوى : بمعنى هيأ . و قال مجاهد : سواها : سوى خلقها و عدل . و هذه الأسماء كلها مجرورة على القسم، أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه ))
كما قال فيها ابن القيم الجوزية :
(( و قوله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) فأخبر أنه سوى النفس كما سوى البدن في قوله : ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) الإنفطار الآية (7) فهو سبحانه سوى نفس اللإنسان كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، و البدن موضوع لها كالقالب لما هو موضوع له )) (1)
إذا تمام التسوية تقع على النفس؛ لقوله عز وجل : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) وليس على الجسد فالنفس تخلق طفلة و ليدة لا تملك معرفة حقها فتكبر بنا و تصبح مسئولة عن أفعالها و على هذا فالننظر متى سجد الملائكة لآدم عليه السلام ولنرجع إلى مطالع سورة البقرة من الآية 30 الى الآية 35
(( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْملاََئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الأََسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاََئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاََءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لاََعِلْمَ لَنَا إِِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاََئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ))
إذا الملائكة لم يعرفـوا متى يسجدون لآدم عليه السلام، إلا عندما أمرهم الله تعالى، و مـن بعد أن بلغهم آدم بالاسماء، و على ما يبـدو أن رسالة آدم هي إعمار الأرض، و إن كان ما نفخ فيه روح الحياة لوجب السجود له من قبل هذا، و الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، يقول تعالى فيهم : ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) النحل الآية (50) فوجب أن يكون ما نفخ في آدم روح الرسالة وسياق الآيات يؤكد على خلق آدم من قبل و أن الملائكة عرفوه وعلموه .
2- 2- 2 روح عيسى عليه السلام
يقول الله في هذا من سورة مريم من الآية 16 الى الآية 26
(( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَِلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ))
ومن المعلوم أن روحنا تقع علي الملك جبريل، الرسول المكلف بالرسالات، جاء ليهب لمريم غلاما زكيا، فماذا كان من عيسى عندما ولد ؟ تحدث في المهد، تحدث بقوة الروح التي نفخت فيه .
ويستدل على هذا من قوله تعالى :
(( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إلاَِّ سِحْرٌ مُبِينٌ )) المائدة الآية (110)
وليس المقصود بقوله تعالى " فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً " خروجه الأول، و الثاني في آخر الزمان، ولقد أكد الله على هاتين الفترتين لأنهما الفترتان التان تحدث بهما المسيح بقوة الروح التـي نفخـت فيه، بالطبع كان يتحـدث مع الناس في كـافة فترات حيـاته، في شبـابه، وطـفولتـه، و لكنه لم يكن يتحدث معهم بقوة الروح، و لقد صرف الله في الآية معجزات عيسى و التي أجراها الله على يديه، و فيها بيان فضله عليه، و كيف كفاه الله ومنع بني إسرائيل عنه، وهذا كله قد كان في زمن رسالته، فوجب أن يكون حديثه في المهد معجزة، و فضل أيضا، وما قال الله وكهلا إلا ليؤكد على صدق رسالته، وأنها من عند الله .
ويقول في هذا الطبري :
(( " تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً " يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لعيسى : " اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ " في حال تكليمك الناس في المهد وكهلا . و إنما هذا خبر من الله تعالى ذكره أنه أيده بروح القدس صغيرا في المهد و كهلا كبيرا، فرد " كَهْلاً " على قوله " فِي الْمَهْدِ " ؛ لأن معنى ذلك : صغيرا، كما قال الله تعالى ذكره : " دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً " يونس الآية (12) ))
2- 3 الآية التي استفتحت بها حديثي من سورة الإسراء
(( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) الإسراء الآية (85)
ورد فيها من تفسير القرطبي :
(( روي البخاري ومسلم والترمذي، عن عبد الله قال : بينما أنا مع النبي في حرث وهو متكئ على عسيب إذا مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح، فقال : ما رابكم إليه ؟ وقال بعضهم : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فقالوا : سلوه . فسألوه عن الروح فأمسك النبي فلم يرد عليهم شيئا؛ فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) لفظ البخاري . وفي مسلم : فأسكت النبي (1) وفيه : وما أتوا . وقد اختلف الناس فى الروح المسئول عنه، أي الروح هو ؟ فقيل : هو جبريل ، قاله قتادة . قال : وكان ابن عباس يكتمه . وقيل هو عيسى . وقيل القرآن ، على ما يأتي بيانه فى آخر الشورى . و قال علي بن أبي طالب : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه،في كل و جه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحه ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة - ذكره الطبري - قال ابن عطية : وما أظن القول يصح عن علي رضي الله عنه . قلت : اسند البيهقي، أخبرنا أبو زكريا، عن أبي إسحاق، أخبرنا أبو الحسن الطرائفي، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس فى قوله :" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ " يقول : الروح ملك . وبإسناده عن معاوية بن صال حدثني أبو هران - بكسر الهاء - يزيد بن سمرة، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب، أنه قال فى قوله تعالي : " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ " قال : هو ملك من الملائكة له سبعون الف وجه. ...الحديث بلفظه ومعناه . وروى عطاء عن ابن عباس قال : الروح ملك له أحد عشر ألف جناح و ألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة؛ ذكره النحاس . وعنه : جند من جنود الله لهم أيد و أرجل يأكلون الطعام؛ ذكره الغزنوي . وقال الخطابي : وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة . وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد . وقال أهل النظر منهم : إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه فى بدن الإنسان ، وكيف إمتزاجه بالجسم و إتصال الحياة به، وهذا شي لا يعلمه إلا الله عز وجل . وقال أبو صالح : الروح خلق كخلق بني آدم و ليسوا ببني آدم، لهم أيد و أرجل . والصحيح الإبهام لقوله : " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " أي هو
(أمرعظيم و شأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله ؛ ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها، و إذا كان الإنسان فى معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الخلق أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز )) .
كما ورد في تفسير ابن كثير، و تفسير الطبري، أنها روح الحياة، كما ورد أنها لجبريل أيضا، و ذلك لما قاله قتادة وكان ابن عباس يكتمه، والأرجح أن ابن عباس ما كتمها إلا بإعتقاده أنه إن صرح بجبريل خالف مراد الله، و إن كان الله قد صرح به في غير هذه الآية، أما سر قوله عز وجل " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " هو أن اليهود ما جاءوا سائلين، بل جاءوا مضللين، أرادوا المكر برسول الله ، فلليهود سلم من الملائكة، و عدو من الملائكة، سلمهم ميكائيل، و عدوهم جبريل .
قال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل ابن عثمان، حدثنا علي ابن مسهر، عن داود، عن الشعبي، قال :قال عمر ابن الخطاب : (( كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة التوراة للقرآن، وموافقة القرآن للتوراة، فقالوا: يا عمر ما أحد أحب إلينا منك لأنك تغشانا، قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضا، فبينما أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك، فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من الكتاب، أتعلمون أنه رسول الله، فقال سيدهم: قد نشدكم الله فأخبروه، فقالوا: أنت سيدنا فأخبره، فقال: إنا نعلم أنه رسول الله، قلت: فإني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله لم لم تتبعوه ! قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة، عدونا جبريل، وهو ملك الفظاظة والغلظة، وسلمنا ميكائيل وهو ملك الرأفة واللين. قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، ولا لميكائيل أن يعادي سلم جبريل، ولا أن يسالم عدوه، ثم قمت، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أقرئك آيات نزلت علي قبل، فتلا الآية ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) البقرة الآية (97) فقلت: ( والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأخبرك بقول اليهود ) . وقال عمر : فلقد رأيتني أشد في دين الله من حجر )) (1) .
وعلى هذا جاء الرد مناسبا للموقف، لأن السؤال كان غرضه التشكيك في نبوة محمد ، والتفريق بين صفوف المسلمين، فلو أجاب الرسول أن الروح هو جبريل لقالوا له إنا لا نعلم من جبريل وملك موسى هو ميكائيل، و حتي لو مال لهم رسول الله و أجاب بما يشتهون؛ لقالوا أولا يعلم ربك ما جئنا نسأل عنه وهو الذي يعلم ما في الصدور، جئنا نسال لماذا اختارك الله بالرسالة .
( فسبحان الذي رد مكرهم عليهم )
2- 4 روح القدس
(( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ )) النحل الآية (102)
ولقد اختلف المفسرين في روح القدس فمنهم من قال أنها لجبريل، و هذا رأي الغلبة منهم و هذا ما تأوله ظاهر الآيات ، و منهم من قال أنها اسم الله الأقدس الذي اعطاه لعيسى ليصنع به المعجزات، ومنهم من قال أنها للقرآن فلقد ثبت في كتاب الله أن القرآن روح منه، و بيان روح القدس يتوقف على الشكل الذي وجدت عليه ، و لقد وردت كلمة الروح في كتاب الله على خمسة أشكال ، إما معرفة ( بال ) أو مفخمة كقوله عز وجل :
(( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا )) مريم الأية (17)
و قوله :
(( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )) الشعراء الآية (193)
وخصت جميع هذه الآيات الرسالة السماوية أو رسول الله جبريل على التحديد، كما وردت الروح في كتاب الله غيرمعرفة ( بال ) و مفردة كقـوله عـز وجـل :
(( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ و َرُوحٌ مِنْهُ )) النساء الآية (171)
و قوله :
(( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )) الحجر الآية (29)
وقد أشير فيها جميعا إلى الروح التي بلغ بها رسل الأرض، وهذا لأن رسول السماء واحد ورسل الأرض كثر، فجاء الإعجاز البياني و التوصيفي لهم علي هذا النحو، إذا لمن روح القدس ؟ - الشكل الخامس - وردت جملة روح القدس في كتاب الله في أربع آيات، و كلمة الروح فيها جميعا نكرة معرفة بالإضافة - معرفة لشخصه - إذا صاحب روح القدس رسول من الأرض بشر به من قبل في جميع الكتب السماوية ، و إلا ما كانت الروح عرفت بالإضافة ، وأما عن تأييده لعيسى فذلك أن رسالة عيسى هي الإنجيل، و الإنجيل يعني البشارة السعيدة فبمن جاء عيسى ليبشر ؟ جاء ليبشر بقدوم روح القدس أحمد ، يقول تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الصف الآية (6) و لم يخلف عيسى عليه السلام إلا رسول الإسلام